فصل: تفسير الآية رقم (30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (30):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [30].
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ} جملة مبتدأة، سيقت لتقرير ما مر من عدم إيمان أهل الكتابين بالله سبحانه، وانتظامهم بذلك في سلك المشركين.
وقرئ {عزيرٌ} بالتنوين على الأصل، وحذفه لالتقاء الساكنين على غير القياس تخفيفاً، وهو مبتدأ وما بعده خبره، ولهم أوجه أخرى في إعرابه، والوجه ما ذكرناه.
وليعلم أن الذي دعا الفريقين إلى مقاليهما هو الغلوّ في التعظيم، فأما اعتقاد النصارى فهو مشهور معلوم، تكفل التنزيل الكريم بذكره مراراً، ودحر شبهه.
وأما اليهود في عزير فغلاتهم أوجهلتهم يتفوهون بهذه الكلمة الشنعاء، وأما بقيتهم فيعتبرونه في مقام موسى، ويحترمون دائماً ذكره، ويعتقدون أن الله تعالى قد أقامه لجمع التوراة المبددة.
ولتجديد الملة الموسوية، وإرجاعها إلى عهدها، وإصلاح ما فسد من آدابها وعوائدها، بإلهام، فإن نسخة التوراة الأصلية، وبقية أسفارهم، فقدت لما أغار أهل بابل، جند بخت نصّر على بيت المقدس، وهدموه، وسبوا أهله إلى مملكتهم بابل، وأقاموا هناك سبعين سنة، ثم لما نبغ فيهم عزير واشتهر، واستعطف أحد ملوكهم في سراحهم، فأطلق له الملك الإجازة، فعاد من بابل بمن بقي من اليهود إلى بيت المقدس، وجدد ما اندثر من الشريعة الموسوية.
قال بعض الكتابيين في قاموس له: زعم اليهود أن أئمتهم عقدوا مجمعاً في عهد عزرا وجمعوا الأسفار العبرانية في قانون متعارف عندهم اليوم، وضموا إليه ما لم يكن من قبل جلاء بابل.
وفي الذخيرة من كتبهم ما نصه: أجمع القوم على أن عزرا الذي كان خبيراً بآثار وطنه وقدمها، وماهراً بمعرفة الطقوس اليهودية، وبارعاً بالعلوم المقدسة، هو أول من قرر هذا القانون، وأثبت أجزاءه المختلفة، بعد الأسر البابلي في نحو السنة 542 قبل ميلاد المسيح، ولما تفرقت التوراة آن الجلاء، قام عزرا وجمع ما وجد من النسخ المتناثرة، دعوه: منها نسخة صححها ونقحها ما استطاع، وبدل أسماء الأماكن التي انتسخ ثَمَّ استعمالُها، بأسماء أخرى أشهر في عرفهم، ونسق الكل نسقاً محكماً، واتفق الجميع على أنه اعتاض في كل الأسفار عن حروف الخط العبراني بحروف كلدانية، ألف استعمالها اليهود مدة أسرهم الذي استمر سبعين سنة. انتهى.
فلهذا العمل المهم عندهم دعوه: ابنا. وفيه من الجراءة على المقام الرباني ما فيه. ولو زعموا إرادة المجاز في ذلك، فلا مناص لهم من لحوق الكفر بهم، فإنه يجب الإحتياط في تنزيهه تعالى، حتى بعفة اللسان، عن النطق بما يوهم نقصاً في جانبه، فيتبرأ من مثل هذا اللفظ مطلقاً ومن كل ما شاكله.
هذا وقد قيل إن القائل لذلك بعض من متقدميهم، وقيل ناس من أهل المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا دلالة في الآية على واحد منهما بخصوصه، ونسبة الشيء القبيح إذا صدر من بعض القوم إلى الكل، مما شاع.
لطيفة:
قرئ {عزيرٌ} بالتنوين على الأصل، لأنه منصرف، وقرئ بحذفه لالتقاء الساكنين على غير القياس، لا لأنه أعجمي غير منصرف للعلمية والعجمية، كما قيل، لأن ذلك إنما يصح لو كان على لفظه الأصلي، وهو عزراء أو عزريا لفظان عبرانيان، معنى الأول معين، والثاني الله مساعد، أما وقد تصرفت فيه العرب بالتصغير، فلا.
وظاهر أن أغلب الأسماء القديمة، لانتقالها من أمة إلى أخرى وكثرة تداولها، تطرق إليها من شوائب التحريف، والزيادة والنقصان، ما غير صيغتها الأصلية بعض التغيير ولما استعملت العرب، من الأسماء العبرانية ونحوها ما أدخلته إلى لغتها، إما منحوتة من القديمة، أو محرفة منها، أصبحت بالإصطلاح من قبيل الأعلام العربية، إلا ما بقي على وضعه الأول.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ} إشارة إلى ما صدر عنهم من العظيمتين، وما فيه من معنى البعد، للدلالة على بعد درجة المشار إليه في الشناعة والفظاعة. قاله أبو السعود.
{قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} قال الزمخشري: فإن قلت: كل قول يقال بالفم، فما معنى {بأفواههم} قلت فيه وجهان:
أحدهما: أن يراد به أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ يفوهون به، فارغ من معنى تحته، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم، لا تدل على معان.
وذلك أن القول الدال على معنى، لفظه مقول بالفم، ومعناه مؤثر في القلب، وما لا معنى له، مقول بالفم لا غير.
والثاني: أن يراد بالقول المذهب، كقولهم: قول أبي حنيفة، يريدون مذهبه، وما يقول به، كأنه قيل: ذلك مذهبهم وديتهم بأفواههم، لا بقلوبهم، لأنه لا حجة معه ولا شبهة، حتى يؤثر في القلوب.
وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له، لم تبق شبهة في انتفاء الولد. انتهى.
وثمَةَ وجه ثالث شائع في مثله، وهو التأكيد لنسبة هذا القول إليهم، مع التعجيب من تصريحهم بتلك المقالة الفاسدة.
قال بعضهم: القول قد ينسب إلى الأفواه وإلى الألسنة، والأول أبلغ.
{يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} أي: يضاهئ قولهم قولَ الذين كفروا من قبلهم من الأمم، فضلوا كما ضل أولئك.
قيل: المراد بـ: {الذِين كَفَرُوا} مشركوا مكة، القائلون بأن الملائكة بنات الله، وهذا يتم إن أريد باليهود والنصارى في الآية، يهود المدينة ونصارى نجران في عهده صلى الله عليه وسلم، وهو وجه في الآية كما تقدم، فإنهم سُبِقوا من أهل مكة بالكفر به صلى الله عليه وسلم.
وقيل: المراد بهم قدماؤهم، يعني أن من كان في زمنه صلى الله عليه وسلم منهم، يضاهئ قولهم قول قدمائهم، والمراد عراقتهم في الكفر، أي: أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث.
قال أبو السعود: وفيه أنه لا تعدد في القول، حتى يتأتى التشبيه، وجعله بين قولي الفريقين، مع اتحاد المقول، ليس فيه مزيد مزيّة.
وقيل: الضمير للنصارى، أي: يضاهئ قولُهُم: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} قولَ اليهود {عُزَيْرٌ} إلخ لأنهم أقدم منهم.
قال أبو السعود: وهو أيضاً كما ترى، فإنه يستدعي اختصاص الرد والإبطال بقوله تعالى: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ}، بقول النصارى. انتهى.
والمضاهاة المشابهة، يقال: ضاهيت، وضاهأت- كما قاله الجوهري- وقراءة العامة {يضاهون}، بهاء مضمومة بعدها واو.
وقرأ عاصم بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة، وهما بمعنى من المضاهأة، وهي المشابهة، وهما لغتان.
وقيل: الياء فرع عن الهمزة، كما قالوا: قريت وتوضيت وأخطيت.
{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} أي: لعنهم أو قتلهم، أو عاداهم أو تعجب من شناعة قولهم.
{أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي: كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (31):

القول في تأويل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [31].
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} زيادة تقرير لما سلف من كفرهم بالله تعالى، وفيه وصفهم بنوع آخر من الشرك.
والأحبار علماء اليهود جمع حَبِْر، بكسر الحاء وفتحها، وهو العالم بتحبير الكلام وتحسينه- كذا ذكره أئمة اللغة- قال بعضهم: الحبر أعظم الأشراف بين الإسرائيليين، يكون عندهم وسيلة للتقرب لله، ومرتبة وراثية في آل هارون، يكون بكر أشيخ من فيها. انتهى.
والرهبان جمع راهب، بمعنى المتعبد الخاشع الزاهد، وأصل الترهب عن النصارى، التخلي عن أشغال الدنيا، وترك ملاذّها والزهد فيها، والعزلة عن أهلها.
وفي الحديث «لا رهبانية في الإسلام». وقوله تعالى: {أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال الرازي: الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، أي: لما روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: «يا عدي! اطرح عنك هذا الوثن». وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه».
وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعه من قومه، ثم منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أخته، وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، فرغَّبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي المدينة، وكان رئيساً في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال «بلى إنهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عدي! ما تقول؟ أيضرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟ ما يضرك أن يقال: لا إله إلا الله، فهل تعلم إلهاً غير الله»؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق.
قال فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال: «إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون».
قال ابن كثير: وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية، أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا.
وقال السدّي: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
وقد ذكر بعض المفسرين وجهاً في تفسير اتخاذهم أرباباً، قال: بأن أطاعوهم بالسجود لهم.
قال الشهاب: والأول هو تفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم، فينبغي الاقتصار عليه، لأنه لما أتاه عديّ بن حاتم وهو يقرؤها قال له: إنا لم نعبدهم، فقال: «ألم تتبعوهم في التحليل والتحريم؟ فهذه هي العبادة»، والناس يقولون: فلان يعبد فلاناً، إذا أفرط في طاعته، فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة، أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة، وهي طاعة مخصوصة على مطلقها، والأول أبلغ. انتهى.
فقال: رازي: قال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى.
قال الرازي: قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء، قرأت عليهم آيات كثيرة في كتاب الله تعالى في بعض مسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون إليّ كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات، مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها؟ ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل المدينة. انتهى.
{وَمَا أُمِرُوا} أي: والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابهم: {إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} أي: يطيعوا أمره، ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه، وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} صفة ثانية لإله، أو استئناف مقرر للتوحيد: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: به في العبادة والطاعة.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (32):

القول في تأويل قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [32].
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي: يخمدوا حجته الدالة على وحدانيته، وتقدسه عن الولد، أو القرآن، أو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} أي: بإعلاء التوحيد، وإعزاز الإسلام {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} أي: بدلائل التوحيد، ذلك.
قال أهل المعاني: نور الله استعارة أصلية تصريحية لحجته أو ما بعدها، لتشبيه كل منها بالنور في الظهر، والإطفاء ترشيح، أو هو استعارة تمثيلية، شبه حالهم في محاولتهم إبطال النبوة بالتكذيب، بحال من يطلب إطفاء نور عظيم، منبث في الآفاق، يريد الله أن يزيده بنفخه.
لطائف:
الأولى: قال الشهاب: روعي في كل من المشبه والمشبه به الإفراط والتفريط، حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم، ونسب النور إلى الله، ومن شأن النور المضاف إليه أن يكون عظيماً، فكيف يطفأ بنفخ الفم، مع ما بين الكفر الذي هو ستر وإزالة للظهور، والإطفاء من المناسبة.
الثانية: لا يخفى أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُتِمَّ} استثناء مفرغ، وهو في محل نصب مفعول به، والإستثناء المفرغ يكون في الفعل المنفي لا موجب، إلا أن يستقيم المعنى.
وهنا صح التفريغ من الموجب وهو: {وَيَأبى اللهُ} لأنه نفى في المعنى، لأنه وقع في مقابلة: {يُرِيدُونَ} وفيه من المبالغة والدلالة على الإمتناع ما ليس في نفي الإرادة، أي: لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره، فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه، فضلاً عن الإطفاء- أفاده أبوا السعود-.
وقال الزجاج: المستثنى منه محذوف تقديره: ويكره الله كل شيء إلا إتمام نوره.
قال الشهاب: فالمعنى على العموم المصحح للتفريغ عنده، فللناس في توجيه التفريغ هنا مسلكان.
والحاصل أنه إن أريد كل شيء يتعلق بنوره بقرينة السياق، صح إرادة العموم، ووقوع التفريغ في الثابتات، كما ذهب إليه الزجاج، إذ ما من عامّ إلا وقد خُصِّص، فكل عموم نسبي، لكنه يكتفي به، ويسمى عموماً.
ألا ترى إن مثالهم قرأت إلا يوم كذا، قد قدّره كل يوم، والمراد من أيام عمره، لا من أيام الدهر.
فإن نظر إلى الظاهر في أمثاله كان عامّاً، واستغنى عن النفي، وإن نظر إلى نفس الأمر، فهو ليس بعام، فيؤول بالنفي، والمعنى فيهما واحد وإنما أوّل به هنا عند من ذهب إلى تأويله، لاقتضاء المقابلة له، إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بالنفي، فيلزمه جريان التفريغ في كل شيء، وليس كذلك ما صرح به الرضي.
ولذا قيل: الاستثناء المفرغ، وإن اختص بالنفي، إلا أنه قد يمال مع المعنى بمعونة القرائن، ومناسبة المقامات، فيجري بعض الإيجابات مجرى النفي في صحة التفريغ معها- ذكره الشهاب أيضاً-.
الثالثة: قال أبو السعود: وفي إظهار النور في مقام الإضمار مضافاً إلى ضميره عز وجل زيادة اعتناء بشأنه، وتشريف له على تشريف، وإشارة بعلة الحكم.